الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه،
وبعد:
فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعتُ رسول اللَّه صلى
الله عليه وسلم يقول: «اقرؤا القرآن، فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا
لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم
القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان أو كأنهما فرقان من طير صواف،
تحاجان عن أصحابهما، اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركة، وتركها حسرة ولا
يستطيعها البطلة». قال معاوية: بلغني أن البطلة السحرة.
قال في «فتح المنعم»: وفي القرآن سورة تفضل اللَّه بزيادة الأجر لقارئها،
وحث عليها، لما فيها من عظات وآلاء وتمجيد وتحميد فالبقرة وآل عمران لهما
من أنوار التنزيل ما استحقا به أن يسميا بالزهراوين أي الكوكبين النيرين،
يأتيان يوم القيامة كالظلة لقارئهما من حر الموقف وتدافعان عنه وتشفعان له
يوم القيامة، نعم القرآن كله يشفع لقارئه لكن البقرة وآل عمران تتقدمان
القرآن كما يتقدم الوفد رؤساؤه، وفي آخر البقرة آيتان فيهما اعتراف وإيمان
وثناء ودعاء، من قرأهما أجيب دعاؤه، ومن بات عليهما بات محصنًا لا يقربه
شر الشيطان، قوله صلى الله عليه وسلم: «اقرءوا الزهراوين: البقرة وآل
عمران».
قالوا: سميتا الزهراوين لنورهما وهدايتهما وعظيم أجرهما، يقال: زهر السراج
والقمر والوجه زهورًا تلألأ كالزهر و«البقرة وآل عمران» بدل من الزهراوين،
والبدل على نية تكرار العامل، والتعبير يفيد المبالغة في المدح حيث جمع
لهما الوصف العام أولاً ثم حصره فيهما. اهـ.
وقال القاضي عياض في إكمال المعلم: قوله: «اقرؤوا الزهراوين: البقرة وآل
عمران» حجة لمن أجاز أن يقال: سورة البقرة وآل عمران، واختار بعضهم أن
يقال: السورة التي تذكر فيها كذا، ومعنى «الزهراوين» المنيرتان إما
لهدايتهما قارئهما، أو لما يسبب له أجرهما من النور يوم القيامة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «كأنهما غمامتان أو كأنهما غيايتان» قال أهل
اللغة: الغمامة والغياية كل شيء أظل الإنسان من فوق رأسه من سحابة وغبرة
وغيرهما. نقله النووي. وفي القاموس: الغمامة: السحابة أو البيضاء من
السحب. والغياية كل ما أظل الإنسان من فوق رأسه كالسحاب ونحوه. والمراد أن
ثوابهما يأتي بهذا المنظر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «أو كأنهما فرقان من طير صواف» الفرقان
والحزقان: معناهما واحد، وهما قطيعان وجماعتان، يقال في الواحد: فرق وحزق
وحزيقه، أي جماعة، ومعنى «صواف»: باسطة أجنحتها ملتصق بعضها ببعض كما كانت
تظلل سليمان عليه السلام، وقوله صلى الله عليه وسلم: «تحاجان عن أصحابهما»
أي تدافعان بالحجة عن أصحابهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن أخذها بركة وتركها حسرة» أي قراءتها بركة وترك قراءتها حسرة وخسارة.
قوله صلى الله عليه وسلم: «ولا تستطيعها البطلة» فُسرت البطلة: بالسحرة،
تسمية لهم باسم فعلهم، لأن ما يأتون به الباطل، وإنما لم يقدروا على
قراءتها ولم يستطيعوها لزيغهم عن الحق وانهماكهم في الباطل، ويصح أن يكون
المعنى ولا يستطيع دفعها واختراق تحصينها لقارئها السحرة.
وقيل: المراد من البطلة أهل البطالة، أي لا يستطيعون قراءتها وتدبر معانيها لكسلهم.
وروى مسلم عن النَّواس بن سمعان الكِلابيِّ، قال: سمعتُ النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: «يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به،
تَقدمُهُ سورة البقرة وآل عمران»، وضرب لهما رسولُ اللَّه صلى الله عليه
وسلم ثلاثة أمثال. ما تستهُن بَعدُ، قال: «كأنهما غمامتان أو ظلتان
سَوداوان بينهما شرقٌ، أو كأنهما حِزقان من طير صَوَافَّ، تُحاجَّانِ عن
صَاحِبهما».
قال القرطبي في المفهم (2/432): وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث
النَّواس: «كأنهما غمامتان، أو ظلتان سَوْدَاوان أو كأنهما حزقان»، هذا
يدلُّ على أن (أو) ليست للشك، لأنه مثَّل السورتين بالثلاثة الأمثال،
فيحتمل أن يكون «أو» بمعنى الواو، كما قال الكوفيُّ، وأنشدوا عليه:
نال الخلافة أو كانت له قدرًا كما أتى ربَّهُ مُوسى على قدر وأنشدوا
أيضًا:وقد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورهاوقالوه في قوله
تعالى: أو كصيب من السماء فيه[البقرة: 19].
والغمام: السَحابُ الملتف. وهي الغياية، إذا كانت قريبًا من الرأس والظلة
أيضًا وصفتا بالسواد لتكاتفهما وتراكم بعضها على بعض وهو أنفع ما يكون من
الظلال. و(الشرق): قال القاضي عياض: رويناه بكسر الراء وفتحها، قيل: وهو
الضياء والنور. قلتُ: والأشبه أن الشرق بالسكون بمعنى المشرق.
يعني: أن بين تلك الظلتين السوداوين مشارق الأنوار، وبالفتح: هو الضياء
نفسه، وإنما نبَّه في هذا الحديث على هذا الضياء؛ لأنه لما قال: سوداوان،
قد يُتوهم أنهما مظلمتان، فنفى ذلك بقوله: «بينهما شرق» أي مشارق الأنوار
أو أنوار، حسب ما قررناه، ويعني بوصفهما بسوداوين: أي: من كثافتهما التي
بسببها حالتا بين من تحتهما، وبين حرارة الشمس وشدة اللهب، والله أعلم.
عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه أن رجلاً كان يكتب للنبي صلى الله عليه
وسلم وكان قد قرأ البقرة وآل عمران، وكان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران
جد فينا - يعني عظم -
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يملي عليه غفورًا رحيمًا فيكتب عليمًا
حكيمًا فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب كذا وكذا، اكتب كيف شئت.
ويملي عليه عليمًا حكيمًا. فيقول: اكتب سميعًا بصيرًا. فيقول: اكتب كيف
شئت فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، فلحق بالمشركين. وقال: أنا أعلمكم بمحمد،
إن كنت لأكتب ما شئت. فمات ذلك الرجل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن
الأرض لم تقبله». وقال أنس: فحدثني أبو طلحة أنه أتى الأرض التي مات فيها
ذلك الرجل فوجدوه منبوذًا، فقال أبو طلحة: ما شأن هذا الرجل ؟ قالوا: قد
دفناه مرارًا فلم تقبله الأرض». أخرجه الإمام أحمد برقم (12215)].
والحديث أخرجه البخاري ومسلم بدون ذكر الشاهد، فأخرجه البخاري في كتاب
المناقب ولفظه: «عن أنس رضي اللَّه عنه قال: كان رجل نصرانيًا فأسلم وقرأ
البقرة وآل عمران، فكان يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم، فعاد نصرانيًا،
فكان يقول: ما يدري محمد إلا ما كتبت له، فأماته اللَّه، فدفنوه فأصبح وقد
لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل محمد وأصحابه، لما هرب منهم نبشوا عن صاحبنا
فألقوه فحفروا له فأعمقوا، فأصبح وقد لفظته الأرض. فقالوا: هذا فعل محمد
وأصحابه نبشوا عن صاحبنا لما هرب منهم فألقوه خارج القبر فحفروا له
وأعمقوا له في الأرض ما استطاعوا فأصبح قد لفظته الأرض، فعلموا أنه ليس من الناس، فألقوه». وأخرجه مسلم في كتاب صفات المنافقين.
في هذا الحديث الشريف يبين الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه أن من
قرأ سورتي البقرة وآل عمران كان له شأن عظيم بين الصحابة رضوان اللَّه
عليهم، لما فيهما من علم كثير وأحكام عظيمة، ولما لهما من مكانة عظيمة عند
اللَّه تعالى، وهذا الرجل لما ارتد عن الإسلام وكانت له هذه المنزلة
العظيمة، فإن اللَّه تعالى عاقبه عقابًا شديدًا، فأهلكه وقصم عنقه، وأمر
الأرض فنبذته على ظهرها ليكون عبرة لغيره، وهذا من علامات النبوة لسيدنا
محمد صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر أن الأرض لن تقبله.اللهم أحينا مسلمين،
وأمتنا مسلمين، واحشرنا في زمرة الصالحين.
وقد التبس فهم هذا الحديث على بعض الناس، بل على بعض أهل العلم ممن لم
يكلفوا أنفسهم بالبحث عن معانيه، ظنًا منهم أن الرجل كان من كتاب الوحي،
وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يملي عليه (غفور رحيمًا) فيكتب (عليمًا
حكيمًا)، فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم أكتب ما شئت - إلى آخر الحديث
- وبئس ما ظنوا وحاشاه أن يُغير أو يبدل شيئًا مما أوحاه اللَّه إليه من
القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى، فعامة الروايات
في هذا الحديث جاءت مطلقة غير مقيدة، وليس فيها أنه كان يكتب الوحي، وقد
ذهب الطحاوي إلى أنه كان يكتب الرسائل يبعث بها رسول اللَّه صلى الله عليه
وسلم في دعائه الناس إلى الإسلام.
قال الطحاوي في «مشكل الآثار» (8/241): «والذي في هذا الحديث قد يحتملُ أن
يكون فيما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُمليه على ذلك الكاتب من
كتبه إلى الناس في دعائه إيَّاهم إلى اللَّه عز وجل، وفي وصفهم له ما هو
جلَّ وعزَّ عليه من الأشياء التي كان يأمرُ ذلك الكاتب بها، ويكتب الكاتب
خلافها فما معناها، معناها (أي مما يقارب المعنى المقصود)، إذ كانت كلها
من صفات اللَّه عز وجل، فبان بحمد اللَّه وبنعمته أن لا تضاد في شيء من
ذلك ولا اختلاف». اهـ بتصرف.
فيهما اسم اللَّه الأعظم:
عن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسم
اللَّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في سور ثلاث: في البقرة، وآل عمران،
وطه، يعني: الحي القيوم». أخرجه الفريابي وابن ماجه والحاكم والطحاوي في
مشكل الآثار وأبو يعلى وابن مردويه بإسناد حسن.ويشهد له هذا الحديث:
15- حديث أسماء بنت يزيد رضي اللَّه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «اسم اللَّه الأعظم في هاتين الآيتين: وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو
الرحمن الرحيم[البقرة: 163]، وفاتحة آل عمران: الم (1) الله لا إله إلا هو
الحي القيوم